فصل: باب ما جاء في تحريم المدينة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب من تجوز قسامته في العمد من ولاة الدم

1627- قال مالك الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أنه لا يحلف في القسامة في العمد أحد من النساء وإن لم يكن للمقتول ولاة إلا النساء فليس للنساء في قتل العمد قسامة ولا عفو قال أبو عمر قد تقدم القول في من له العفو من ولاة الدم‏.‏

وأما من له القسامة في قتل العمد من الأولياء فإن الشافعي وكل من رأى أن القسامة لا يقاد بها فإنهم يقولون إن كل وارث للمقتول يقسم مع الأولياء ويرثون الدية ومن لا يرى أن يقسم الأولياء وإنما يقسم المدعى عليهم ويغرمون وهو مذهب الكوفيين وخلافهم أبعد ويحيى على قول أحمد في قياسه كقول مالك وهو قول داود وأهل الظاهر قال مالك في الرجل يقتل عمدا أنه إذا قام عصبة المقتول أو مواليه فقالوا نحن نحلف ونستحق دم صاحبنا فذلك لهم قال مالك فإن أراد النساء أن يعفون عنه فليس ذلك لهن العصبة والموالي أولى بذلك منهن لأنهم هم الذين استحقوا الدم وحلفوا عليه قال أبو عمر هذه مسألة متعلقة بمسألة العفو وبالتي قبلها وقد تقدم القول فيها أن سائر العلماء يقولون إن كل وارث له العفو وهو ولي الدم والحجة لمالك أن العقل لما كان على العصبة دون من كان من الورثة كانوا أولى بالدم وبالعفو ممن لا يعقل لأن السنة المجتمع عليها وقضى بها عمر وعلي رضي الله عنهما وغيرهما أن المرأة ترث من دية زوجها وليس من عاقلته فالقياس على هذا إن كان العقل لازما له كان وليا للدم وكان له العفو دون من ليس كذلك وحجة الشافعي والكوفيين أنها دية فكل من كان وارثا لها كان وليا لها وجاز له العفو عنه وعن نصيبه منها قال مالك وإن عفت العصبة أو الموالي بعد أن يستحقوا الدم وأبى النساء وقلن لا ندع قاتل صاحبنا فهن أحق وأولى بذلك لأن من أخذ القود أحق ممن تركه من النساء والعصبة إذا ثبت الدم ووجب القتل قال أبو عمر يمكن أن يحتج لقول مالك هذا بظاهر قول الله عز وجل ‏(‏ولكم في القصاص حيوة‏)‏ ‏[‏البقرة 179‏]‏‏.‏

وفيه من الردع والزجر والتشديد ما فيه فكان القائم بذلك أولى ممن عفي عنه والله ‏(‏عز وجل‏)‏ أعلم وحجة سائر العلماء أن الولي له السلطان الذي جعله الله له في العفو والقود لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله بين خيرتين بين أن يعفو أو يقتص وإن شاء عفا على دية أو على غير دية وهذه مسألة قد أفردنا لها بابا وأوضحنا فيه معنى قول الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ‏(‏فمن عفى له من أخيه شيء‏)‏ ‏[‏البقرة 178‏]‏‏.‏

وذكرنا ما للعلماء من التنازع في ذلك والحمد لله كثيرا قال مالك لا يقسم في قتل العمد من المدعين إلا اثنان فصاعدا تردد الأيمان عليهما حتى يحلفا خمسين يمينا ثم قد استحقا الدم وذلك الأمر عندنا قال أبو عمر ظاهر الحديث يشهد لقول مالك هذا لأنه قال لأخي المقتول عبد الرحمن بن سهل ولا بني عمه حويصة ومحيصة تحلفون وتستحقون ولم يقل للأخ وحده تحلف ومعلوم أن الأخ يحجب ابني عمه عن ميراث أخيه وهذا رد على الشافعي في قوله لا يحلف إلا الورثة من الرجال والنساء وإن كان واحدا حلف خمسين يمينا وحكم له بالدية‏.‏

وأما الكوفيين فلا يحلف عندهم المدعون على ما ذكرنا عنهم بما لا معنى لتكراره قال مالك وإذا ضرب النفر الرجل حتى يموت تحت أيديهم قتلوا به جميعا فإن هو مات بعد ضربهم كانت القسامة وإذا كانت القسامة لم تكن إلا على رجل واحد ولم يقتل غيره ولم نعلم قسامة كانت قط إلا على رجل واحد قال أبو عمر هذا قول أحمد بن حنبل قال لا تكون القسامة إلا على رجل واحد وهو يرى القود بالقسامة كما يرى مالك وقال المغيرة المخزومي يقسم على الجماعة في العمد ويقتلون بالقسامة كما يقتلون بالشهادة القاطعة قال المغيرة وكذلك كان في الزمن الأول إلى زمن معاوية ولأشهب وسحنون في هذا المعنى ما قد ذكرنا في كتاب اختلافهم‏.‏

وأما الشافعي والكوفيون فلا قود عندهم في القسامة وإنما تستحق بها الدية ويقسم عند الشافعي على الواحد وعلى الجماعة وتستحق الدية على الواحد في ماله في العمد وعلى الجماعة في أموالهم‏.‏

وأما عند الكوفيين فيحلف أهل المحلة ويغرمون وقالوا في الشهادة على القتل إنهم إذا شهدوا أنه ضربه بسيف فلم يزل صاحب فراش حتى مات فعليه القصاص وإن لم يقولوا مات منها وروى الربيع عن الشافعي مثل ذلك سواء وروى المزني عنه أنه لا يجعل قاتلا له حتى يقولوا إنه إذ ضربه نهر دمه ورأينا دمه سائلا وإلا لم يكن قاتلا ولا جارحا ولا يكلف الشافعي ولا الكوفيون الشهود أن يقولوا مات منها‏.‏

وأما القسامة فلا قسامة عندهم في غير ما شرطوه وذهبوا إليه على ما قد ذكرناه عنهم فيما مضى من هذا الكتاب ومالك والليث يقولان إذا شهد ولي أنه ضربه فبقي بعد الضرب مغمورا لم يأكل ولم يشرب ولم يتكلم ولم يفق حتى مات قتل به وإن أكل أو شرب وعاش ثم مات ففيه القسامة ويحلف المقسمون أنه مات من ذلك الضرب‏.‏

باب القسامة في قتل الخطأ

1628- قال مالك القسامة في قتل الخطأ يقسم الذين يدعون الدم ويستحقونه بقسامتهم يحلفون خمسون يمينا تكون على قسم مواريثهم من الدية فإن كان في الإيمان كسور إذا قسمت بينهم نظر إلى الذي يكون عليه أكثر تلك الأيمان إذا قسمت فتجبر عليه تلك اليمين قال مالك فإن لم يكن للمقتول ورثة إلا النساء فإنهن يحلفن ويأخذن الدية فإن لم يكن له وارث إلا رجل واحد حلف خمسين يمينا وأخذ الدية وإنما يكون ذلك في قتل الخطأ ولا يكون في قتل العمد القول فيه عند كل من قال بتبدئة المدعين بالدم كقول مالك منهم الشافعي وأحمد إلا أن الشافعي قال تجبر اليمين المنكسرة على من سهمه قليل كما تجبر على صاحب السهم الكبير وعند مالك وبن القاسم تجبر على الذي تصيبه أكثر واتفقوا أن الدية تقسم بينهم على مواريثهم نساء كانوا أو رجالا وأن النساء يحلفن إن انفردن ويأخذن الدية على مواريثهن وقد اختلف أصحاب مالك إذا نكل المدعون لقتل الخطأ عن الأيمان هل ترد على المدعى عليهم أم لا على ما قد رسمناه عنهم في كتاب اختلافهم والله أعلم‏.‏

باب الميراث في القسامة

1629- قال مالك إذا قبل ولاة الدم الدية فهي موروثة على كتاب الله يرثها بنات الميت وأخواته قال أبو عمر ولا أعلم في هذا خلافا بين العلماء وهو إجماع من الصحابة والتابعين وسائر فقهاء المسلمين إلا طائفة من أهل الظاهر شذوا فجعلوا الدية للعصبة خاصة على ما كان يقوله عمر رضي الله تعالى عنه ثم انصرف عنه بما حدثه الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فقضى به عمر والخلفاء بعده وأفتى به العلماء أئمة الفتوى في الأمصار من غير خلاف إلا ممن لا يستحي من سبيل المؤمنين عصمنا الله عز وجل ووفقنا لما يرضاه ولا يصح فيه عن علي رضي الله عنه ما رواه أهل الظاهر والصحيح عنه توريث الإخوة للأم من الدية وقول مالك في هذا الباب هو قول سائر العلماء الشافعي وغيره وكان لفظ الشافعي في كتابه لفظ مالك في ذلك‏.‏

وأما المعنى فسواء وكذلك سائر العلماء‏.‏

باب القسامة في العبيد

1630- قال مالك الأمر عندنا في العبيد أنه إذا أصيب العبد عمدا أو خطأ ثم جاء سيده بشاهد حلف مع شاهده يمينا واحدة ثم كان له قيمة عبده وليس في العبيد قسامة في عمد ولا خطأ ولم أسمع أحدا من أهل العلم قال ذلك قال مالك فإن قتل العبد عمدا أو خطأ لم يكن على سيد العبد المقتول قسامة ولا يمين ولا يستحق سيده ذلك إلا ببينة عادلة أو بشاهد فيحلف مع شاهده قال مالك وهذا أحسن ما سمعت قال أبو عمر هذا القول من مالك شهادة أنه قد سمع الخلاف في قسامة العبيد وأنه قد استحسن ما وصف في ذلك واختصار اختلاف الفقهاء في القسامة في العبيد أن الأوزاعي قال إذا وجد العبد قتيلا في دار قوم فعليهم غرم دمه ولا قسامة فيه وقال بن شبرمة ليس في العبد قسامة إذا وجد قتيلا في قبيلة وهو كالدابة‏.‏

وقال أبو حنيفة ومحمد إذا وجد العبد قتيلا في قبيلة ففيه القسامة وعليهم قيمته في ثلاث سنين ولا يبلغ بها الدية واختلف قول أبي يوسف فمرة قال في عبد وجد قتيلا في دار قوم هو هدر لا شيء فيه من قسامة ولا قيمة ومرة قال تعقله العاقلة بلا قسامة ومرة قال تعقله العاقلة بالقسامة وقال زفر على رب الدار التي يوجد فيها العبد قتيلا القسامة والقيمة وروى الربيع عن الشافعي قال لسيد العبد القسامة في العبد قال أبو عمر قد اتفقوا على وجوب الكفارة على قاتل العبد المؤمن خطأ وأجمعوا على أن لا كفارة على من قتل شيئا من البهائم أو أتلف شيئا من الأموال فكان العبد كالحر في ذلك أشبه منه بالسلعة فينبغي أن تكون القسامة كذلك وقيمته كدية الحر‏.‏

وأما من لم ير فيه قسامة فلأنه قال سلعة من السلع يستحق بما تستحق الأموال من اليمين والشاهد عند من رأى ذلك وقد تقدم القول في جراحه وفيما يصاب به مما ينقصه وبالله تعالى التوفيق لا شريك له كمل كتاب القسامة بحمد الله وعونه ‏(‏كتاب الجامع‏)‏ حدثني الشيخ الفقيه الإمام الحافظ فخر الأئمة جمال الحفاظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي الأصبهاني ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ أصلا من لفظه قال كتب إلى أبو عمران موسى بن عبد الرحمن بن أبي تليد الشاطبي من الأندلس قال أخبرنا أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الحافظ في كتابه من كتب الاستذكار قال ‏(‏كتاب الجامع‏)‏ من كتب الموطأ من الذي حدثني به أبو عثمان سعيد بن نصر قراءة منه علينا من أصل كتابه قال حدثني أبو محمد قاسم بن أصبغ ووهب بن مسرة قالا حدثني محمد بن وضاح قال حدثني يحيى بن يحيى عن مالك‏.‏

وحدثني أيضا أبو الفضل أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن التاهوتي والبزار قراءة مني عليه عن وهب بن مسرة وبن أبي دليم عن بن وضاح عن يحيى عن مالك‏.‏

وحدثني به أبو عمر أحمد بن محمد بن أحمد عن أبوي عمر أحمد بن مطرف بن عبد الرحمن وأحمد بن سعيد بن حزم عن عبيد الله بن يحيى عن يحيى عن مالك وعن وهب بن مسرة أيضا عن بن وضاح عن يحيى عن مالك‏.‏

باب الدعاء للمدينة وأهلها

1631- مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم بارك في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم يعني أهل المدينة‏.‏

1632- مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك بمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك الثمر قال أبو عمر أما دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بالبركة لأهل المدينة في مكيالهم وصاعهم ومدهم فالمعنى فيه - والله عز وجل أعلم - صرف الدعاء بالبركة إلى ما يكال بالمكيال والصاع والمد من كل ما يكال وهذا من فصيح كلام العرب وأن يسمى الشيء باسم ما قرب منه ولو لم تكن البركة في كل ما يكال وكانت في المكيال لم تكن في ذلك منفعة ولا فائدة بل لو رفعت البركة من المكال فكانت في المكيال كانت مصيبة وهذا محال في معنى الحديث وقد جل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو بما لا فائدة فيه وفيه دليل على أن الإنفاق بالكيل أفضل منه بغير الكيل وقد روي مرفوعا كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه والفائدة في حديث أنس الدعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة لأهل المدينة في طعامهم والندب إلى استعمال الكيل في كل ما يكال ويمكن فيه الكيل ويوزن وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة‏.‏

وأما حديث أبي هريرة ففيه من المعاني اختصاص الرئيس في الخير والدين والعلم والسلطان بالهدية والطرفة رجاء دعائه بالبركة وبرا به وإكراما له وتبركا بدعوته‏.‏

وأما دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة فمجاب كله إن شاء الله عز وجل وإذا كانت الإجابة موجودة لغيره فما ظنك به صلى الله عليه وسلم وقد يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم اللهم بارك لنا يريد نفسه وأصحابه الذين آمنوا به وصدقوه واتبعوه على دينه في زمانه وتدرك بركه تلك الدعوة في قوله اللهم بارك لنا كل من كان حيا مولودا في مدته وكل من آمن به واتبعه من ساكني المدينة إن شاء الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ومعلوم أنه لم يرد بدعائه طعام المنافقين ولم يدخله في دعوته تلك لأنه لم يقصدهم بذلك وقد ظن قوم أن هذا الحديث يدل على أن المدينة أفضل من مكة بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لها بمثل ما دعا به إبراهيم لمكة ومثله معه وليس كما ظنوا لأن دعاء إبراهيم لمكة لم تعرف فضيلة مكة به وحده بل كان فضلها قبل أن يدعو لها ودعاء إبراهيم -عليه السلام- قد علمناه بما نطق به القرآن في قوله عز وجل ‏(‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الأخر قال ومن كفر‏)‏ الآية ‏[‏البقرة 126‏]‏‏.‏

وقد كانت مكة حرما آمنا بدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى حرم مكة ولم يحرمها الناس وقوله عليه السلام إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وأجمع المسلمون على القول بأن مكة حرم الله وقالوا في المدينة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دعا إبراهيم لمكة بنحو دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة حدثني أحمد بن عبد الله قال حدثني الحسن بن إسماعيل قال حدثني عبد الملك بن بحر قال حدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني سنيد قال حدثني إسماعيل بن علية عن أيوب عن سعيد بن جبير عن بن عباس في الحديث الطويل حين نزل إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر مكة ثم رجع إلى الشام ثم عاد إليها بعد مدة وقد ماتت أم إسماعيل وتزوج إسماعيل في جرهم فوجد امرأته في المرة الثانية ولم يجد إسماعيل فسألها عنه فقالت مر إلى الصيد فقال وما طعامكم قالت اللحم والماء فقال اللهم بارك لهم في لحمهم ومائهم قالها ثلاثا‏.‏

وحدثني محمد بن عبد الله بن حكم قال حدثني محمد بن معاوية قال حدثني إسحاق بن أبي حسان قال حدثني هشام بن عمار قال حدثني حاتم بن إسماعيل قال حدثني حميد عن عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن بن عباس في قوله عز وجل ‏(‏رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرت من آمن منهم بالله واليوم الأخر‏)‏ ‏[‏البقرة 126‏]‏‏.‏

قال كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون غيرهم فقال الله عز وجل ‏(‏ومن كفر‏)‏ أيضا فإني أرزقه كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقا لا أرزقهم أمتعهم قليلا ثم اضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ثم قرأ بن عباس ‏(‏كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا‏)‏ ‏[‏الإسراء 20‏]‏‏.‏

ذكر الفريابي قال حدثني قيس بن الربيع عن خصيف عن سعيد بن جبير ومجاهد في قوله عز وجل ‏(‏وارزق أهله من الثمرت‏)‏ قالا سأل الرزق لمن آمن قال أبو عمر ولو كان الدعاء للمدينة بالبركة دليلا على فضلها على مكة لكانت الشام واليمن أفضل من مكة لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالبركة لأهلها ولم يذكر في ذلك الحديث مكة وهذا لا يقوله مسلم أخبرنا عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني الخشني قال حدثني محمد بن المثنى قال حدثني حسين بن الحسن عن بن عوف عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره البخاري قال حدثني علي بن المديني قال حدثني أزهر بن سعد السمان عن بن عون عن نافع عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفعه في كتاب البخاري أنه قال اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا قالوا يا رسول الله وفي نجدنا فأظنه قال في الثالثة هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان لفظ البخاري وليس في حديث بن المثنى فأظنه قال في الثالثة فقال في نجدنا قال هنالك الزلازل الخ قال أبو عمر وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم لإخباره عن الشام وهي يومئذ دار كفر وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثل هذا حديث بن عمر في المواقيت وقت لأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرنا ومما يدل على فضل مكة على غيرها قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس فذكر منها حج البيت الحرام وقال صلى الله عليه وسلم الإلحاد فيه من الكبائر وجعل الله الكعبة البيت الحرام قبلة للمسلمين في صلاتهم وقال صلى الله عليه وسلم قبلتكم أحياء وأمواتا ورضي الله عز وجل من عباده بحط أوزارهم بأن يقصد القاصد البيت الحرام حاجا مرة في دهره‏.‏

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عدي بن الخيار الزهري أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول والله إنك لخير أرض الله ‏(‏عز وجل‏)‏ وأحب أرض الله ‏(‏عز وجل‏)‏ إلى الله ‏(‏عز وجل‏)‏ ولولا أني أخرجت منك ما خرجت وهكذا رواه صالح بن كيسان ويونس بن يزيد وعقيل بن خالد وعبد الرحمن بن خالد بن يزيد وعقيل بن خالد وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر كلهم عن بن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عدي بن الخيار سمع النبي صلى الله عليه وسلم مثله وهو حديث لا يختلف أهل العلم بالحديث في صحته‏.‏

وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حين خروجه من مكة إلى المدينة اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلى فأسكني أحب البلاد إليك وهو حديث موضوع منكر لا يختلف أهل العلم في نكارته وضعفه وأنه موضوع وينسبون وضعه إلى محمد بن الحسن بن زبالة المدني وحملوا عليه فيه وتركوه‏.‏

وأخبرنا عبد الرحمن بن يحيى قال حدثني علي بن مسرور قال حدثني أحمد بن داود قال حدثني سحنون بن سعيد قال حدثني عبد الله بن وهب قال حدثني مالك بن أنس أن آدم لما أهبط إلى الأرض بالهند قال يا رب هذه أحب الأرض إليك أن تعبد فيها قال بل مكة فسار آدم حتى أتى مكة فوجد عندها ملائكة يطوفون بالبيت ويعبدون الله ‏(‏عز وجل‏)‏ فقالوا مرحبا يا آدم يا أبا البشر إنا ننتظرك ها هنا منذ ألفي سنة فهذه حكاية مالك - رحمه الله - وقوله وخبره عن مكة وفي حديث هذا الباب من الآداب وجميل الأخلاق وإعطاء الصغير من الولدان التحفة والطرفة وما يسر به ويعجبه وينفعه وأنه أولى بذلك من الكبير لقلة صبره وشدة فرحه باليسير منه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الأطفال ويلاطفهم ويعجبه أن يسرهم وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني أو قلابة قال حدثني أبو ربيعة قال حدثني جرير بن حازم عن يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بالباكورة دفعها إلى أصغر من يحضره من الولدان أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن عبد السلام الخشني قال حدثني محمد بن بشار بندار قال حدثني سعيد بن عامر قال حدثني شعبة عن قتادة عن أنس قال إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاطفنا حتى أن كان ليقول لأخ لي صغير يا أبا عمير ما فعل النغير‏.‏

باب ما جاء في سكنى المدينة والخروج منها

1633- مالك عن قطن بن وهب بن عمير بن الأجدع أن يحنس مولى الزبير بن العوام أخبره أنه كان جالسا عند عبد الله بن عمر في الفتنة فأتته مولاة له تسلم عليه فقالت إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن اشتد علينا الزمان فقال لها عبد الله بن عمر اقعدي لكع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة قال أبو عمر إنما شكت مولاة بن عمر إليه حالها في معيشتها وعرضت له بالمسألة رجاء رفده فكره أن يفتخر عند جلسائه بالقيام بها فذكر لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكره وفهمت عنه فقعدت والله تعالى أعلم وقوله ‏(‏عليه السلام‏)‏ لا يصبر على لأوائها وشدتها الحديث خرج على فقراء المهاجرين الذين كانوا يلزمون رسول الله صلى الله عليه وسلم على شبع بطونهم وعلى أقل من الشبع ومعلوم أن من أقام معه عليه السلام - حتى يظهر أمر الله ‏(‏عز وجل‏)‏ جدير بأن ينال شفاعته وشهادته له يوم القيامة بمؤازرته والرضا بالدون من العيش لصحبته وللمدينة بهذا الحديث وما كان مثله فضل عظيم ولا خلاف بين علماء الأمة في فضلها وأنها أفضل بقاع الأرض إلا مكة فإنهم اختلفوا في الأفضل منهما على ما ذكرناه في باب الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلاة فلا وجه لإعادته‏.‏

1634- مالك عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أقلني بيعتي فأبى فخرج الأعرابي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها قال أبو عمر هذا الأعرابي كانت لبيعته رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام والهجرة لوطنه والمقام معه وهذا نوع من البيعات التي كان يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس وقد ذكرنا وجوهها وشواهدها في التمهيد في باب محمد بن المنكدر وكان على الناس في ذلك الوقت فرضا إذا أسلموا أن ينتقلوا إلى المدينة إذ لم يكن للإسلام في ذلك الوقت دار غيرها ويقيم معهم لصرفهم فيما يحتاج إليه من غزو الكفار وحفظ المدينة ممن أرادها منهم ولإرسال من احتاج إلى إرساله في الدعاء إلى الإسلام وغير ذلك مما هو معلوم من سيرته صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله ‏(‏عز وجل‏)‏ عليه مكة وكان بقاء من بقي في دار الكفر مسلما حراما عليه إذا قدر على الهجرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا بريء من كل مسلم مقيم في دار الشرك وكذلك كان عليهم حراما رجوعهم من هجرتهم إلى أعرابيتهم ألا ترى إلى حديث بن مسعود قال آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهداه إذا علموا به والواشمة والمستوشمة للحسن ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وهذا الأعرابي كان ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المقام بالمدينة فلما لحقه من الوعك أراد الخروج عنها إلى وطنه ولم يكن -والله أعلم- ممن رسخ الإيمان في قلبه بل كان من الأعراب الذين قال الله ‏(‏عز وجل‏)‏ أنهم أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد والحمد لله‏.‏

وأما قوله عليه السلام إن المدينة كالكير تنفي خبثها فلا خبث أكثر دناءة ممن رغب بنفسه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صحبته‏.‏

وأما قوله عليه السلام وينصع طيبها فالناصع السالم الخالص الباقي على النار والنقي الطيب من الحديد قال النابغة الذبياني ‏(‏أتاك بقول هلهل النسخ كاذب‏.‏‏.‏‏.‏ ولم يأت بالحق الذي هو ناصع ‏(‏2‏)‏‏)‏ وقد ذكرنا في التمهيد حديث مجاشع بن مسعود قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه على الهجرة فقال عليه السلام قد مضت الهجرة لأهلها ولكن على الإسلام والجهاد والخير وحديث يعلى بن أمية قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي يوم الفتح فقلت يا رسول الله بايع أبي على الهجرة فقال أبايعه على الجهاد وقد انقطعت الهجرة وقال عليه السلام لا هجرة بعد الفتح وإنما هو جهاد ونية‏.‏

1635- مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال سمعت أبا الحباب سعيد بن يسار يقول سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد قال أبو عمر قوله عليه السلام أمرت بقرية تأكل القرى يريد أنه أمر بالهجرة إلى قرية يفتح الله ‏(‏عز وجل‏)‏ عليه منها القرى الكثيرة وكذلك فتح الله ‏(‏تعالى ‏)‏ برحمته عليه وعلى أصحابه من المدينة وكان اسمها يثرب فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة‏.‏

وأما قوله ‏(‏تنفي الناس‏)‏ فكلام عموم معناه الخصوص لأنها لم تنف من الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياته إلا من لا إيمان له ولا خير فيه ممن رغب بنفسه عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته وصحبته والدليل على أن ذلك كلام خرج على صحبته والمقام معه في حياته خروج الجلة من الصحابة عن المدينة بعد موته إلى العراق والشام وسائر بلدان الإسلام يعلمون الناس الدين والقرآن فكم منهم سكن حمص ودمشق وسائر ديار الشام وكم منهم سكن الكوفة والبصرة وغيرها وسائر ديار العراق وما وراءها ولم يختط من اختط الكوفة والبصرة وغيرها منهم إلا بإذن عمر بن الخطاب وسائر الصحابة رضي الله عنهم‏.‏

1636- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها إلا أبدلها الله خيرا منه قال أبو عمر هذا الحديث قد وصله معن بن عيسى عن مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وقد روي أيضا مسندا من حديث أبي هريرة ومن حديث جابر وقد ذكرنا ذلك في التمهيد وهذا عندنا على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله كان يعوض رسوله أبدا خيرا ممن يرغب عنه‏.‏

وأما بعد وفاته فقد خرج منها من لم يعوضها الله خيرا منه من أصحابه رضي الله عنهم وروى شعبة قال حدثني يحيى بن هانئ بن عروة المرادي قال سمعت نعيم بن دجاجة قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لا هجرة إلينا بعد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

1637- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون قال أبو عمر هذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ومن الغيب الذي أخبر به قبل وقوعه فكان كما قال عليه السلام فتحت بعده تلك البلدان وتحمل إليها كثير من ساكني المدينة ممن كان معه في حياته صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما قوله عليه السلام يبسون فيروى بفتح الياء وكسر الباء وضمها أيضا وهذه رواية بن القاسم وبن بكير ويحيى من رواة الموطأ وقال بن القاسم عن مالك يبسون يدعون وقال بن بكير معناه يسيرون من قوله عز وجل ‏(‏وبست الجبال بسا‏)‏ ‏[‏الواقعة 5‏]‏‏.‏

ورواه بن وهب يبسون بضم الياء من الرباعي وفسره فقال يزينون لهم الخروج وكذلك رواه بن حبيب عن مطرف وفسره بنحو ذلك فقال يزينون لهم البلد الذي جاؤوا منه ويحببونه إليهم ويدعونهم إلى الرحيل إليه من المدينة وذلك مأخوذ من إلباس الحلوبة عند حلابها كي تدر باللبن وهو أن يجر يده على وجهها وصفحة عنقها أنه يزين ذلك عندها قال أبو عمر‏.‏

وأما قوله والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون فالخير ها هنا من طريق الفضل لأن سكنى المدينة للصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي الصلاة فيه خير من الصلاة فيما سواه من المساجد وأفضل بألف درجة إلا المسجد الحرام ولم يذكر في حديث سفيان بن أبي زهير هذا مكة وقد علم أنها ستفتح عليه كما تفتح الشام والعراق واليمن بعده لأن مكة ليست كغيرها لأن الهجرة على أهلها خاصة فرضا أن لا ينصرف أحد من مهاجريها إليها أبدا ولا يستوطنها ولا ينزلها إلا حاجا أو معتمرا وعلى ذلك انعقدت البيعة للأنصار إلا أن من لم يسلم من أهلها إلا يوم الفتح أو بعده ليس ممن وصفنا حكمه وقد أوضحنا هذا المعنى في التمهيد‏.‏

1638- مالك عن بن حماس عن عمه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لتتركن المدينة على أحسن ما كانت حتى يدخل الكلب أو الذئب فيغذي على بعض سواري المسجد أو على المنبر فقالوا يا رسول الله فلمن تكون الثمار ذلك الزمان قال للعوافي الطير والسباع قال أبو عمر اختلف عن مالك في اسم بن حماس هذا فقيل يوسف بن يونس وقيل يونس بن يوسف وقيل إن يونس بن يوسف غير بن حماس هذا والله أعلم وقد روى هذا الحديث جماعة عن مالك عن بن حماس هكذا غير منسوب ولا مسمى كما روى يحيى وقد ذكرنا من روى عن مالك كل ذلك من أصحابه رواة الموطأ في التمهيد وليس هذا الإسناد عندهم بالبين ولم يحتج به مالك في حكم دم ولا فرج ولا مال وذكر أنه كان فاضلا عابدا مجاب الدعوة وفي حديث هذا الباب إخبار عن غيب يكون فكان كما قال صلى الله عليه وسلم ومعنى يغذي أي يبول وقوله أو على المنبر شك من المحدث‏.‏

وأما قوله العوافي وتفسيره له بالطير والسباع فكان كما قال عند أهل العلم بلسان العرب ويشهد لذلك حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مسلم يحيي أرضا فتصيب منها عافية أو يشرب منها كبد إلا كتب الله ‏(‏عز وجل‏)‏ له بذلك أجرا والعافية واحد العوافي والعافي الطالب للحاجة وجمعه عوافي وعفاة قال الأعشي‏:‏

يطوف العفاة بأبوابه *** كطواف النصارى ببيت الوثن

وقال إعرابي لخالد بن عبد الله بن يزيد القسري أيضا‏:‏

أخالد أني لم أزرك لحاجة *** سوى أنني عاف وأنت جواد

أخالد بين الأجر والحمد حاجتي *** فأيهما تأتي فأنت عماد

وقد ذكرنا في التمهيد حديثين حسنيين من حديث أبي ذر وحديث أبي هريرة في معنى حديث بن حماس هذا والحمد لله كثيرا‏.‏

1639- مالك أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة التفت إليها فبكى ثم قال يا مزاحم أتخشى أن نكون ممن نفت المدينة قال أبو عمر هذا إشفاق منه رضي الله عنه وقد خرج الفضلاء الجلة من المدينة ولم يخافوا ما خافه عمر رضي الله عنه وما الخوف والإشفاق والتوبيخ للنفس إلا زيادة في صلاح العمل وليس في قول عمر هذا حجة على من ذهب إلى ما قلنا وتأولناه في أحاديث هذا الباب والله ‏(‏عز وجل‏)‏ الموفق للصواب وذكر أهل السير أن خروج عمر مع مزاحم مولاه من المدينة كان في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وذلك أن الحجاج كتب إلى الوليد أن عمر بن عبد العزيز بالمدينة كهف لأهل النفاق والعداوة والبغضاء لأمير المؤمنين فجاوبه الوليد إني أعزله فعزله وولى عثمان بن حيان المري وذلك في شهر رمضان المذكور فلما صار عمر بالسويداء قال لمزاحم يا مزاحم أخاف أن نكون ممن نفت المدينة وقال ميمون بن مهران ما رأيت ثلاثة مجتمعين خيرا من عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك ومولاه مزاحم والله الموفق للصواب‏.‏

باب ما جاء في تحريم المدينة

1640- ملك عن عمرو مولى المطلب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال هذا جبل يحبنا ونحبه اللهم إن إبراهيم حرم مكة وأنا أحرم ما بين لابتيها هكذا روى مالك هذا الحديث مختصرا ورواه إسماعيل بن جعفر فذكر فيه معاني ولم يذكرها مالك ذكره سنيد قال حدثني إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمر ومولى المطلب بن حنطب أنه سمع أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة التمس لنا غلاما من غلمانكم يخدمني فخرج أبو طلحة يردفني وراءه فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل فكنت اسمعه يكثر أن يقول اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال فلم أزل أخدمه حتى أقبلنا من خيبر وأقبل بصفية بنت حيي قد جاؤوا بها وأردفها خلفه وراءه على كسائها حتى إذا كنا بالصهباء صنع حيسا في نطع ثم أرسلني فدعوت رجالا فأكلوا وكان ذلك بناؤه بها ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال هذا جبل يحبنا ونحبه فلما أشرف على المدينة قال اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة اللهم بارك لهم في صاعهم ومدهم قال أبو عمر أما قوله صلى الله عليه وسلم في أحد جبل يحبنا ونحبه فأكثر العلماء يحملونه على المجاز والمعنى عندهم في ذلك كالمعنى في قول الله تعالى ‏(‏وسئل القرية‏)‏ ‏[‏يوسف 82‏]‏‏.‏

يعني واسأل أهل القرية فكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد هذا جبل يحبنا ونحبه يعني الأنصار الساكنين قربة وكانوا يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحبهم لأنهم آووه ونصروه وأعانوه على إقامة دينه صلى الله عليه وسلم وقد قيل في المجاز أيضا وجه آخر وذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم يفرح بأحد إذا طلع له استبشارا بالمدينة ومن فيها من أهله وذريته ويحب النظر إليهم ويبتهج للأوبة من سفره والنزول على أهله واحبته وقوله يحبنا أي لو كان ممن يصح منه الحب لأحبنا كما نحبه وقد زدنا هذا المعنى بيانا بشواهد في التمهيد وقد قيل إن محبته حقيقية كما يسبح كل شيء حقيقة ولكن لا يفهم ذلك الناس وغير نكير أن يصنع الله محبة رسوله في الجماد وفيما لا يعقل كعقل الآدميين كما وضع الله خشيته في الحجارة فأخبر في محكم كتابه بأن منها ما يهبط من خشية الله وكما وضع في الجذع محبة النبي صلى الله عليه وسلم حتى حن إليه حنين الناقة لولدها رواه أنس وجابر وغيره وقد ذكرناه من طرق في غير هذا الموضع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع فلما صنع له المنبر وخطب عليه حن الجذع حنين الناقة إليه فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه فسكن ومثل هذا كثير قال الله عز وجل ‏(‏وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم‏)‏ الإسراء 44‏.‏

وأما قوله إن إبراهيم حرم فقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وحديث جابر وحديث رافع بن خديج وحديث سعد بن أبي وقاص كما روي من حديث أنس وقد ذكرناها بالأسانيد في التمهيد وروى بن عباس وأبو شريح الكعبي الخزاعي وأبو هريرة أن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني أبي قال حدثني وهب بن جرير قال حدثني أبي قال سمعت يونس بن يزيد عن الزهري عن مسلم بن يزيد أحد بني سعد بن بكر أنه سمع أبا شريح بن عمرو الخزاعي ثم الكعبي يقول فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن الله حرم مكة لم يحرمها الناس وإنما أحلها لي ساعة من النهار أمس وأنها اليوم حرام كما حرمها أول مرة‏.‏

وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني أبي قال حدثني جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاءه فقال العباس إلا الإذخر فإنه لقبورهم وبيوتهم فقال إلا الإذخر قال أبو عمر هذا هو الصحيح والحقيقة لا المجاز ويشهد لذلك قول الله عز وجل ‏(‏إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذى حرمها‏)‏ ‏[‏النمل 91‏]‏‏.‏

وقد روي أنه حرمها على لسان إبراهيم وليس بالقوي وقال حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني مصعب بن عبد الله قال حدثني عبد العزيز بن أبي حازم عن العلاء بن عبد الرحمن عن مسلم بن السائب عن عبد الرحمن مولى فكيهة قال قال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن إبراهيم خليلك ونبيك وإنك حرمت مكة على لسان إبراهيم‏.‏

وأما قوله وإني أحرم ما بين لابتيها يعني المدينة فقد رواه أبو هريرة‏.‏

1641- مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يقول لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتيها حرام قال أبو عمر اللابتان هما الحرتان واللابة الحرة وهي الأرض التي ألبست الحجار السود الجرد وجمع اللابة لا بات ولوب وكذلك فسره بن وهب وغيره قال بن وهب وهو قول مالك وقال بن وهب وهذا الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إنما هو في قتل الصيد قيل له فما حرم منها في قطع الشجر قال حد ذلك بريد في بريد بلغني ذلك عن عمر بن عبد العزيز وقال بن نافع اللابتان إحداهما التي ينزل فيها الحاج إذا رجعوا من مكة وهي بغربي المدينة والأخرى مما يليها من شرقي المدينة قال وما بين هاتين الحرتين حرام أن يصاد فيها وحش أو طير قال بن نافع وحرة أخرى مما يلي قبلة المدينة وحرة رابعة مما يلي دبر المدينة فما بين هذه الحرار في الدور كلها حرام أن يصاد فيها ومن فعل ذلك أثم ولم يكن عليه جزاء فيما صاد قال أبو عمر أجمع الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار وأتباعهم أن لا جزاء في صيد المدينة وشذت فرقة فقالت فيه الجزاء لأنه حرم نبي قياسا على مكة لأنها حرم إبراهيم عليه السلام واتفق مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد بن حنبل وجمهور أهل العلم أن الصيد في حرم المدينة لا يجوز وعلى ذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

1642- ذكر مالك عن يونس بن يوسف عن عطاء بن يسار عن أبي أيوب الأنصاري أنه وجد غلمانا قد ألجؤوا ثعلبا إلى زاوية فطردهم عنه قال مالك لا أعلم إلا أنه قال أفي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع هذا 1643 مالك عن رجل قال دخل علي زيد بن ثابت وأنا بالأسواق قد اصطدت نهسا فأخذه من يدي فأرسله قال أبو عمر الأسواف موضع بناحية البقيع من المدينة وهو موضع صدقة زيد بن ثابت وماله والنهس طائر يقال إنه الصرد وقيل إنه يشبه الصرد وليس بالصرد وهو أصغر من الصرد مثل القطامي والباشق وقيل أنه اليمام والله أعلم ذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثني إسماعيل بن أويس قال حدثني أبي عن شرحبيل بن سعد أنه خرج هو وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت بحبالتين لهما إلى الأسواف صدقة زيد بن ثابت قال ونحن غلمان فصاد عبد الرحمن طائرا قال له النهس فشكله قال فدق زيد بن ثابت باب الحائط فناولني عبد الرحمن النهس فدخل زيد بن ثابت فرأى معي النهس فقال أصدتم هذا فقلت نعم فقال ناولنيها فنناولته إياه فحل شكاله وسوى ريشه ثم أرسله ثم تناول يدي فصك قفاي ثم قال يا خبيث أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصاد بين لابتي المدينة قال أبو عمر والرجل الذي لم يسمه مالك في حديث زيد بن ثابت يقولون هو شرحبيل بن سعد كان مالك لا يرضاه فلم يسمه والحديث محفوظ لشرحبيل بن سعد من وجوه ذكر إسماعيل بن إسحاق قال حدثني نصر بن علي قال أخبرنا الأصمعي قال أخبرنا مالك عن رجل قال أصبت نهسا بالأسواف فأخذه زيد بن ثابت فأرسله قال الأصمعي فحدثت به نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم فقال ذلك شرحبيل بن سعد أنا سمعته منه قال إسماعيل‏.‏

وحدثني مسدد قال حدثني حماد بن زيد عن عبد الله بن عمر عن شرحبيل بن سعد قال أصبت طائرا بالمدينة فرأني زيد بن ثابت فانتزعه مني فأرسله قال إسماعيل‏.‏

وحدثني علي بن المديني قال حدثني سفيان عن زياد بن سعد الخرساني قال سمعت شرحبيل بن سعد يقول أتانا زيد بن ثابت ونحن غلمان نلعب في حائط له ومعنا فخاخ ننصب بها فصاح بنا وطردنا وقال ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم صيدها يعني المدينة قال إسماعيل‏.‏

وحدثني إبراهيم بن عبد الله الهروي قال حدثني بن أبي الزناد عن شرحبيل بن سعد أن زيد بن ثابت وجده قد اصطاد طائرا يقال له نهس في الأسواف قال فأخذه مني فأرسله وضربني وقال يا عدو الله أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتيها يعني المدينة قال إسماعيل قال مالك تحريم الصيد ما بين لابتي المدينة وتحريم الشجر بريد في بريد ومن غير رواية مالك في تحريم المدينة روى سليمان بن بلال عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن زينب بنت كعب بن عجرة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتي المدينة وأنه حرم شجرها أن يعضد قالت زينب فكان أبو سعيد يضرب بنيه إذا صادوا فيها ويرسل الصيد وروى سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع من شجرها فخذوا سلبه وأخذ سعد سلب من فعل ذلك قال أبو عمر هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فهموا معنى تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة واستعملوا ذلك وأمروا به فأين المذهب عنهم بل الرشد كله في اتباعهم واتباع السنة التي نقلوها وفهموها وعملوا بها‏.‏

وقال مالك لا يقتل الجراد في حرم المدينة وكان يكره ما قتل الحلال من صيد المدينة‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه صيد المدينة غير محرم وكذلك قطع شجرها واحتج الطحاوي لهم بحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل دارهم فقال يا أبا عمير ما فعل النغير وأبو عمير أخ صغير لأنس وكان له نغر يلعب به وهذا لا حجة فيه لأنه يمكن أن يكون النعر صيد في غير حرم المدينة واحتج أيضا بحديث يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عن عائشة قالت كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض ولم يتزمزم كراهية أن يؤذيه وهذا الحديث أيضا معناه معنى حديث أبي عمر في النغير‏.‏

وأما حجة من احتج لسقوط التحريم لصيد المدينة بسقوط الجزاء في صيدها ففاسدة لأن الجزاء فيما ذكره العلماء لم يكن في صيد مكة إلا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ولم يكن على من كان من قبلنا جزاء في صيد مكة ونزعوا بقول الله تعالى ‏(‏يأيها الذين ءامنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد‏)‏ ‏[‏المائدة 94‏]‏‏.‏

وقوله و‏(‏لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا‏)‏ المادة 95‏.‏

باب ما جاء في وباء المدينة

1644- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال قالت فدخلت عليهما فقلت يا أبت كيف تجدك ويا بلال كيف تجدك قالت فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول ‏(‏كل امرءء مصبح في أهله‏.‏‏.‏‏.‏ والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته فيقول‏:‏

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنة *** وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت عائشة فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها وانقل حماها فاجعلها بالجحفة‏.‏

1645- مالك عن يحيى بن سعيد أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت وكان عامر بن فهيرة يقول‏:‏

قد رأيت الموت قبل ذوقه *** إن الجبان حتفه من فوقه

هكذا ذكر مالك قول عامر بن فهيرة عن يحيى بن سعيد أن عائشة لم يختلف الرواة عنه في ذلك ولم يذكره في إسناده عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وقد جوده مالك والله أعلم ورواه سفيان بن عيينة ومحمد بن إسحاق وسعيد بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وفيه قول أبي بكر وقول بلال وقول عامر بن فهيرة وزاد بن عيينة وبن إسحاق في رجز عامر بن فهيرة ‏(‏الثور يحمي جلده بروقه‏)‏ وذكروا أن الداخل عليهم والسائل لهم عن أحوالهم والقائل لكل واحد منهم كيف تجدك رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عائشة ورواه سعيد بن عبد الرحمن عن هشام عن أبيه عن عائشة أنها قالت فدخلت عليهم تعني أبا بكر أباها وبلالا وعامر بن فهيرة في بيت فقلت يا أبت كيف تجدك يا بلال كيف تجدك يا عامر كيف تجدك كما قال مالك إلا ما زاد من ذكر عامر بن فهيرة في هذا الإسناد وقد ذكرنا أحاديثهم بأسانيدها وسياقة متونها في التمهيد وذكرنا بلالا وعامر بن فهيرة بما يجب وينبغي من ذكرهما في كتاب الصحابة‏.‏

وأما قوله إذخر وجليل فهما نبتان من الكلأ يكونان بمكة وأوديتها لا يكادا يوجدان بغيرها وشامة وطفيل جبلان بينهما وبين مكة نحو ثلاثين ميلا وقال بن عيينة وبن إسحاق في البيت الأول من بيتي بلال في هذا الحديث‏:‏

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بفخ وحولي إذخر وجليل

بفخ مكان بواد وقال الفاكهي في كتابه أخبار مكة فخ الوادي الذي بأصل الثنية البيضاء إلى بلدح قال أبو عمر هو قرب ذي طوى وقد قيل إنه وادي عرفان والأول أكثر وهو الذي عنى الشاعر النميري في قوله‏:‏

مررن بفخ رائحات عشية *** يلبين للرحمن معتمرات

وقال آخر‏:‏

ماذا بفخ من الإشراق والطيب *** ومن حوار تقيات رعابيب

وقال بن عيينة في روايته لهذا الحديث عن هشام بإسناده وانقل حماها إلى خم أو الجحفة شك في ذلك وخم موضع قريب من الجحفة وفيه غدير يقال له غدير خم وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي من كنت مولاه فهذا علي مولاه وقال بن إسحاق في روايته لهذا الحديث بإسناده المذكور وانقل حماها إلى مهيعة ومهيعة في الجحفة وفي هذا الحديث بيان ما هو متعارف حتى الآن من تنكير البلدان على من لم يعرف هواء البلد ولم يشرب قبل من مائه‏.‏

وحدثني أبو عبد الله محمد بن عبد الملك قال حدثني أبو سعيد بن الأعرابي قال حدثني الزعفراني قال حدثني شبابه قال حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة عن علي رضي الله عنه قال لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فاجتويناها وأصابنا بها وعك فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحيز عن بدر وذكر تمام الخبر وفيه بيان ما عليه أكثر الناس من حنينهم إلى أوطانهم وتلهفهم على فراق بلدانهم التي كان مولدهم بها ومنشأهم فيها قال بن ميادة واسمه الرماح‏:‏

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بحرة ليلى حيث ربتني أهلي

بلاد بها نيطت علي تمائمي *** وقطعن عني حين أدركني عقلي

وقد يروى‏:‏

هل أبيتن ليلة بوادي الخزاما *** حيث ربتني أهلي

وقال آخر‏:‏

أحب بلاد الله ما بين منيح *** إلي وسلمى أن تصوب سحابها

بلاد بها حل الشباب تمائمي *** وأول أرض مس جلدي ترابها

وفيه عيادة الجلة الأشراف السادة لعبيدهم ومواليهم وإخواهم وذلك تواضع منهم وكان بلال وعامر بن فهيرة عبدين لأبي بكر ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ أعتقهما وفيه تمثل الصالحين والعلماء والفضلاء بالشعر وفي ذلك دليل على جواز إنشاد الشعر الرقيق الذي ليس خنى فيه ولا فحش وفيه رفع العيقرة بالشعر ورفع العقيرة هو الغناء الذي يسمونه غناء الركبان وغناء النصب والحداء وما أشبه ذلك والعقيرة صوت الإنشاد قاله صاحب العين روى بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه أنه أخبره أنه سمع عبد الله بن الأرقم رافعا عقيرته يتغنى قال عبد الله بن عتبة لا والله ما رأيت رجلا كان أخشى لله من عبد الله بن الأرقم وروى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه قال قال عمر رضي الله عنه نعم زاد الراكب الغناء نصبا وروى بن وهب عن أسامة وعبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيهما زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال الغناء من زاد المسافر أو قال من زاد الراكب وروى بن شهاب عن عمر بن عبد العزيز أن محمد بن نوفل أخبره أنه رأى أسامة بن زيد بن حارثة واضعا إحدى رجليه على الأخرى يتغنى النصب وروى أبو عبيدة معمر بن المثنى قال حدثني رؤبة بن العجاج عن أبيه قال أنشدت أبا هريرة‏:‏

طاف الخيالان فهاجا تغنيا *** خيال خيال تكنى تكتما

قامت تريك خشية أن تصرما *** ساقا بخنداه وكعبا أضرما

‏(‏وكفلا مثل النقا أو أعظما‏)‏ فقال أبو هريرة قد كنا ننشد مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعاب علينا قال أبو عمر وقد أنشد كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته اللامية أولها ‏(‏بانت سعاد فقلبي اليوم متبول‏.‏‏.‏‏.‏ ‏(‏2‏)‏‏)‏ وفيها من التشبيب والمدح ضروب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع الشعر ويستحسن الحسن منه وقال عليه السلام إن من الشعر حكمة وروي أن عمر بن الخطاب أتى عبد الرحمن بن عوف زائرا فسمعه يتغنى‏:‏

وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما قضى *** وطرا منها جميل بن معمر

وروينا أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة المدينة فسمع الأخضر الجدي يتغنى في دار سعيد بن العاص يقول‏:‏

تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت *** به زينب في نسوة خفرات

فوقف وقال هذا والله ما يلذ استمعاعه قال سعيد‏:‏

وليست كأخرى أوسعت جيب درعها *** وأبدت بنان الكف بالجمرات

وعلت فتيت المسك وحفا مرجلا *** على مثل بدر لاح في الظلمات

وقامت ترائي يوم جمع فأفتنت *** برؤيتها من راح من عرفات

قالوا فكانوا يرون أن هذا الشعر لسعيد بن المسيب قال أبو عمر البيت الذي سمعه سعيد من الأخضر الجدي هو من شعر النميري يعرف بذلك وهو ثقفي وإنما قيل له النميري نسبة إلى جده وهو محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي كان يشبب بزينب أخت الحجاج وشعره هذا حسن ليس فيه شيء نذكره ها هنا لأنه من معنى الباب وما رأيته قط مجتمعا ولكن رأيته مفترقا يتمثل منه بالبيت والبيتين والأبيات وقد جمعته هنا وهو قوله‏:‏

تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت *** به زينب في نسوة خفرات

فأصبح ما بين الهويما فجذوة *** إلى الماء ماء الجدع في العشرات

له أرج من مجمر الهند ساطع *** تطلع رياه من الكفرات

ولم تر عيني مثل سرب لقيته *** خرجن من التنعيم مبتكرات

تهادين ما بين المحصب من منى *** وأصبحن لا شعثاء ولا عطرات

أعاذ الذي فوق السماوات عرشه *** أو أنس بالبطحاء مؤتجرات

مررن بفخ ثم رحن عشية *** يلبين للرحمن معتمرات

يخمرن أطراف البنا من النقا *** ويخرجن وسط الليل معتجرات

تقسمن لي يوم نعمان أنني *** رأيت فؤادي عازم النظرات

جلون وجوها لم يلحها سمائم *** حرور ولم يسعفن بالصرات

فقلت يعافى الظباء تناولت *** تباع غصون الورد معتصرات

ولما رأت ركب النميري أعرضت *** وكن من أن يلقينه حذرات

فأدنين حتى جاوز الركب دونها *** حجاجا من الوشي والحبرات

فكدت أشتياقا نحوها وصبابة *** تقطع نفسي دونها حسرات

فراجعت نفسي والحفيظة بعد ما *** بللت رداء للعصب بالعبرات

وأراد الحجاج أن يوقع به فاستجار بعبد الملك بن مروان فأجاره وقال له ما كان ركبك يا نميري فقال أربعة أحمرة عليها زيت وزبيب فضحك عبد الملك وقد ذكرنا في كتاب التمهيد ما للعلماء من الكراهة والإجازة في الغناء على أن جمهورهم يكرهون غناء الأعاجم ويجيزون غناء الأعراب وأثبتنا هنالك من ذلك بما فيه كفاية والحمد لله كثيرا‏.‏

1646- مالك عن نعيم بن عبد الله المجمر عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال قال أبو عمر الأنقاب الطرق والفجاج والواحد منها نقب ومن ذلك قول الله عز وجل ‏(‏ فنقبوا في البلد هل من محيص‏)‏ ‏[‏ق 36‏]‏‏.‏

أي جعلوا فيها طرقا ومسالك وفي هذا الحديث فضل كبير للمدينة أنه لا يدخلها الدجال وهو رأس كل فتنة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة حدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني جعفر بن محمد الصائغ قال حدثني محمد بن سابق قال حدثني إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم له أربعون ليلة يسيحها في الأرض اليوم منها كالسنة واليوم منها كالشهر واليوم منها كالجمعة ثم سائر أيامه كأيامكم هذه وله حمار يركبه عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا فيقول للناس أنا ربكم وهو أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر ك ف ر مهجاة يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب يرد كل ماء ومنهل إلا المدينة ومكة حرمهما الله عليه وقامت الملائكة بأبوابها‏)‏ وذكر الحديث بطوله‏.‏